بسم الله الرحمن الرحيم
ما أذكره في هذا المقال هو نموذج لصراع المفاهيم ثم توجيه إلى مصدر استقاء هذه المفاهيم أقول وبالله التوفيق
أراد سيد قطب رحمه الله تأليف كتاب إسمه نحو مجتمع إسلامي متحضر ثم قرر نزع كلمة متحضر فبلغ ذالك مالك بن نبي رحمه الله ففسر هذا التراجع بعقد نفسية نحو الغرب فبلغ سيد قطب ذالك فقال كنت أفكر كما يفكر والخلاف راجع عندهما إلى تصور معنى المتحضر فمفهوم المتحضر الذي نعرفه نحن تصور غربي خالص شوه تصورنا الإسلامي فالإسلام هو الحضارة والمجتمع المسلم الحقيقي هو المجتمع المتحضر والمجتمع غير الإسلامي هو مجتمع غير متحضر فأصبح زيادة كلمة متحضر في نحو مجتمع إسلامي لغوا هكذا وجهة نظر سيد قطب فبينما رأى مالك بن نبي أن الحضارة مبناها القيم والتطور المادي وسيد قطب جعل الحضارة هي القيم لوحدها أما التطور المادي فليس شرطا أو مقياسا لتحضر شعب ما
وإني لأوافق سيدا في كلامه هذا فقد قال الله عز وجل في الكفر وأهله (( أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا )) فكيف يكون عيش الأنعام تحضرا
وإني قدمت بهذه المقدمة لأقول كم من تصور جاهلي بداخلنا ورثناه من معايشتنا للواقع الفاسد أو نابع من التصورات الغربية فقد قام صراع في العصور الوسطى بين الكنيسة والأوربيين إنتهى إلى ازاحة الدين عن الحياة وجعلوا الدين مجرد إختيار شخصي كما يختار احدنا لباسا أو طعاما ما فلم يصبح الدين قيمة او مبدأ يُدافع عنه أو تُراق الدماء لأجله وبالمقابل احدثوا قيما ومبادئ جعلوها فوق الدين كالحرية مثلا فالمساس بالدين غير مُستكره عندهم إلا من حيث هو مساس بالحرية وفي ظل ضعفنا وبعدنا عن ديننا توافدت إلينا هذه القيم والمغلوب مولع بتقليد الغالب كما قال ابن خلدون فوجدت مكانا لها في عقولنا بشعور منا أو بغير شعور فَوُجِد من الفقهاء حتى الفقهاء للأسف من يسعى جاهدا لتبرير الفتوحات الإسلامية مثلا بشتى التبريرات فبعضهم نفى وجود جهاد الطلب وقال إن الجهاد في الإسلام لا يكون إلا دفاعا ثم أخذوا يبررون الفتوحات الإسلامية بأنها أوضاع عالمية وكان العالم يومها في حرب لا سلام ومع أن هذا الكلام طعن في الإسلام إذ الإسلام ليس إمعة إن أحسن الناس احسن وإن أساؤوا أساء بل يقرر القيم بعيد عن التأثيرات الجانبية
ثم خذ مسألة حرية المرأة وما حولها من كلام لتنتهي حول حدِّ الردة وغيرهما فحاولنا جعل شريعة الله وفقا للقيم التي ينادي بها الغرب ويتواصى أنها قيم عالمية وطالما كانت تبريراتنا مبنية على مقدمتين الأولى : إن القيمة الفلانية قيمة إنسانية والمقدمة الثانية الإسلام مع القيم الإنسانية والنتيجة القيمة الفلانية قيمة إسلامية وطالما كانت المقدمة الأولى خاطئة شرعا فما قرره الإسلام هو قيمة إنسانية وما قرر رفضها هي قيمة جاهلية ولو قال الغرب عن بكرة أبيه خلاف ذالك فلا نحتاج إلى مقدمات القياس الصوري
ففي دين الله عز وجل ليست الحرية هي أعلى القيم حنى نبني عليها أحكاما فقهية بل الإسلام نفسه أعلى القيم والحرية مقيدة بها وليس هو مقيد بها وأفسد القيم هي الكفر بكل أشكاله فقد جعل الإسلام حفظ الدين أعلى المراتب بل وجعل القتال لأجل الدين شهادة جزاؤها الجنة وقال سبحانه (( والفتنة أشد من القتل )) أي والكفر الذي يحصل إن تُرك القتال أعظم من القتل الذي يكون بسبب القتال فالفتنة هنا هي الكفر وأما التصور الغربي فيعتبر القتال لأجل الدين عنصرية أو تعصبا مقيتا بينما القتال عنده لنشر الديمقراطية أمر يستحق المناصرة والتشجيع فلا تلومونا
فإذا كان الغرب قد جعل لديمقراطيته مرتبة أعلى من مرتبة الدين بل أدرج الدين في مرتبة المأكولات والمشروبات فمنع ما يضاد ديمقراطيته وقاتل سعيا لنشر الحرية كما يقول ويتغنى وإذا كانت الدول العلمانية جعلت علمانيتها أعلى مرتبة من الدين فلم تسمح بأحزاب دينية ومنعت بعض المظاهر الدينية لأنها تخالف علمانيتها فإن التصور الإسلامي قد جعل الدين أعلى المراتب فإنه يمنع ما يضاده فيمنع بناء الكنائس لأنها تضاده ويمنع النصراني في بلاد المسلمين من إظهار شعائر دينه لأنها تضاده ويطلب الدول الكافرة في حال قوة اهل الإسلام بتحكيم الإسلام وبالسماح لرعاياه بممارسة الشعائر الدينية بكل حرية
فالفرق بين التصور الإسلامي والتصور الجاهلي أن التصور الإسلامي جعل الدين أعلى المراتب فبنى أحكامه عليه وقيد كل القيم به والتصور الغربي الجاهلي جعل الحرية والديمقراطية أعلى المراتب وجعل الدين قضية هامشية كالأكل والشرب فبنى تصوره عليها فعلينا أن نحذر ونمحص جيدا ما يتوافد إلينا من أفكار وقيم
