أنزل الله عز وجل الإسلام في بيئة قبيلة
تحكمها عادات القبيلة ويوجهها كبراؤها , فلم يكن مفهوم الدولة معروفا عند العرب , ولم
توجد أية نظم إدارية لطبيعة بيئتهم القبلية , ولما دخلوا الإسلام بدأت ملامح الدولة
تتشكل من وجود لسلطة عليا هو رئيس الدولة ويسمى – الخليفة - ومجموعة ممن يختارهم للمشاورة هم اهل الحل
والعقد , واستمر حال الدولة الإسلامية على هذه البساطة في النظم حتى توسعت فبدأ
الإحتياج إلى إحداث نظم من بنات أفكارهم أو أخذها مما عرفوه من نظم داخل حضارات بجوارهم , فأحدث نظام
السجون ولم يكن معروفا على عهد رسول الله , وأحدث عمر رضي الله عنه نظام الدواوين
المستمد من الفرس وأحدثت بعده نظم أخرى كنظام الحجابة ونظام الوزارة وأخذت تطور
شيئا فشيئا وهكذا كان موقف المسلمون من هذه النظم فهم إما اجتهدوا لأنفسهم فأحدثوا
نظما وإما استفادوا من تجارب الأمم المجاورة .
وموقف الإسلام من هذه النظم ليس موقف
المعارض المستريب المحرم لكل ما هو أجنبي وليس المبيح الأعمى المنبهر بكل ما قيل
أنه جديد أو انه من أمم متحضرة , فالنظم إما أن تكون إدارية أي كيفيات ووسائل لتحقيق
مصلحة ما أو دفع مفسدة ما فهي مطلوبة شرعا سواء اكانت في السياسة أو الإقتصاد أو في
أي ناحية من نواحي الحياة أما إن كانت النظم مناهج بمعنى إيديولجيات – عقائد ومبادئ
– فالله عز وجل قد أغنى عباده عنها وفي هذا يقول الإمام الشنقيطي رحمه الله في
تفسيره ((وَإِيضَاحُ
ذَلِكَ أَنَّ النِّظَامَ قِسْمَانِ: إِدَارِيٌّ، وَشَرْعِيٌّ، أَمَّا
الْإِدَارِيُّ: الَّذِي يُرَادُ بِهِ ضَبْطُ الْأُمُورِ وَإِتْقَانُهَا عَلَى
وَجْهٍ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ، فَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ... فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ
الْأَنْظِمَةِ الْوَضْعِيَّةِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ قَوَاعِدِ
الشَّرْعِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. )) إنتهى بشئ من التصرف.
فالقاعدة
التي قررها العلماء في هذا الباب أعني باب النظم الإدارية والوسائل السياسية أنه
لا يشترط ورود النص أو الفعل عن النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته لمشروعية
العمل بل يكفي فيه أمران الأول : أن لا يخالف نصا أو قاعدة شرعية والثاني أن
يرجى منه تحقيق مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها يقول ابن القيم في الطرق
الحكيمة ناقلا كلاما لابن عقيل يرد فيع على شافعي قال إن السياسة ما وافق الشرع فقال ابن عقيل كما في الطرق الحكيمة (( فَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك: " إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ " أَيْ لَمْ
يُخَالِفْ مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ: فَصَحِيحٌ. وَإِنْ أَرَدْت: لَا سِيَاسَةَ
إلَّا مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ: فَغَلَطٌ، وَتَغْلِيطٌ لِلصَّحَابَةِ )) وقد أقر ابن القيم قول ابن عقيل هذا وقد نقله عنه أيضا في كتابه الآخر إعلام الموقعين.
فالمحرم
لأي وسيلة سياسية أو إدارية لا ينبغي له أن يمنعها بسبب أنها لم تكن معهودة فيما
مضى أو لأن من أحدثها هم أهل الكفر بل مادامت الوسائل لا تخالف نصا أو قاعدة شرعية ويرجى من
ورائها تحقيق مصالح أو دفع مفاسد فالوسيلة مشروعة ولا نحتاج لنص بخصوصها .