الإضراب -رؤية شرعية -

بسم الله الرحمن الرحيم

من المعلوم عند العقلاء أن الحكم على الشئ فرع على تصوره ولذا كان من المناسب أن نحدد مفهوم ما نتحدث عنه .

فالإضراب هو الإمتناع عن أمر ما كوسيلة ضغط بغية الوصل لمطلب يراه الممتنع حقا له ,أما حكمه فالذين منعوه مطلقا دون تفصيل قالوا (( الإضرابات بمختلف أنواعها من أساليب النظم الديمقراطية )) والحقيقة أن هذا الكلام خاطئ من وجهين .

الأول : أن هذه الوسيلة لا تختص بالنظم الديمقراطية بل عُرف قبل استقرار هذه النظم بل قيل إن أول من مارسه هم الفراعنة حوالي سنة 1152 قبل الميلاد

وكانت العرب تعرف هذا النوع من الإحتجاج الذي هو الإمتناع فقد امتنعت أم سعد بن أبي وقاص عن الطعام حتى يعود لدين قريش وسواء صحت الرواية أم لم تصح فالغرض من إيرادها إثبات أن فكرة الإضراب كانت معروفة قبل إستقرار الأنظمة الديمقراطية فمجرد حكايتها دليل على وجودها إما واقعا أو ذهنا.

الوجه الثاني : لا يضر أن يكون الأسلوب الإداري أو الأسلوب السياسي من أساليب الأنظمة الغربية فموقف الإسلام من هذه النظم ما قاله الشيخ الشنقيطي في تفسيره قال ((  فَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْإِدَارِيَّةِ الَّتِي تُفْعَلُ لِإِتْقَانِ الْأُمُورِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ لَا بَأْسَ بِهِ، كَتَنْظِيمِ شُئُونِ الْمُوَظَّفِينَ، وَتَنْظِيمِ إِدَارَةِ الْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَنْظِمَةِ الْوَضْعِيَّةِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.)) فالممنوع ما اندرج ضمن المبادئ لا الوسائل فالمبادئ قد أغنانا الله بشرعه عن غيره أما الوسائل فالنظر فيها باعتبار ما تُفضي إليه من مصلحة أو مفسدة .

وحجة المانعين الثانية قولهم (( فإن الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات وسائر أساليب الديمقراطية هي من عادات الكفار وطرق تعاملهم مع حكوماتهم، وليست من الدين الإسلامي في شيء )) فهذا الكلام قد تضمن أمرين

الأول : انها من عادات الكفار فتمنع والثاني أنها ليست من الأساليب الشرعية في التعامل مع الحاكم

ولنتحدث عن الأول ثم نؤجل النقطة الثانية إلى آخر الموضوع فنقول ليس شرطا في وسائل الحكم والسياسة أن يكون العمل موروثا إسلاميا وإلا فإن الأمة الإسلامية منذ عهد الصحابة إلى عهود متأخرة كانت تأخذ من تجارب الأمم النافعة فهذا نظام الدواوين قد استمده عمر بن الخطاب رضي الله عنه من فارس ففي الأساليب المستحدثة ينظر هل يرجى من وراءها مصلحة تحقق أم دفع مفسدة أم لا يرجى ذلك

ولذلك فإن الصواب في المسألة النظر إلى الإضراب من حيث أنه وسيلة من الوسائل ولا وجه لتحريم هذه الوسيلة بالنظر إلى ذاتها أما من حيث ما قد يلحقها أو ما يصاحبها من مفاسد فإن الخلل هنا ليس عائدا للوسيلة في حد ذاتها وحينها يوازن بين المفاسد المصاحبة والمصالح المحققة وقد يكون هدفه دفع مفسدة ما فحينها ينبغي الموازنة أيضا بين المفاسد المصاحبة والمفاسد المرجو دفعها فالمقرر شرعا أن إرتكاب مفسدة لدفع أكبر منها إذا لم يمكن إلا بارتكابها مطلوب

ثم يتعلق بالإضراب نظر من جهة العقود والمواثيق المبرمة بين رب العمل والعامل فالنبي صلى الله عليه وسلم قال (( المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما، أو حرم حلالا )) فبمقتضى العقد يحرم على العامل الإخلال بالعمل إن التزم رب العمل بما جاء في العقد من بنود أما إن أخل رب العمل فللعامل المطالبة بحقه بطرق مناسبة والإضراب ما هو إلا آخر الوسائل بعد استنفاذ غيره للمطالبة بالحقوق وقد حاولت القوانين الوضعية تقنين هذه الوسيلة ليُحفظ حقوق الكل بما فيها المصالح الخاصة أو المصالح العامة التي قد يلحقها خلل جراء هذه الممارسة وجعلت إجراءات - كالإعلام به في وقت محدد - تتخذ قبلهلاسترداد الحقوق الضائعة محاولة لتقليل المفاسد التي قد تنجم عنه.

فملخص المسألة أن الإضراب وسيلة قد تكون محرمة وقد تكون غير محرمة بحسب ما تفضي إليه من مفاسد ومصالح

ويبقى النظر في مسألة مطالبة النظام الحاكم بأمر ما بهذه الوسيلة كوسيلة ضغط لتغيير شيء ما فهل يبقى داخلا تحت قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد أم لهذا حكم خاص به باعتبار نتيجته الحتمية من إفضائه إلى مفاسد جمة والأعم الغالب أن هذه المفاسد الحاصلة أشد من المفسدة المراد دفعها أو المصلحة المراد جلبها به فكأن الأصل في هذه الجزئية المنع والعارض هو الجواز .